صراع في لوحة

قصة لوحة:

منذ يومين وصلتني صورة للَّوحة أعلاه، مع تعليق يقول: إن طفلا هنديا قد رسمها، فصارت غلافا لتقرير حول المساواة بين الجنسين أصدرته الحكومة الهندية في العام٢٠٢٠-٢٠٢١م، وحين تتبعت قصة الصورة اتضح أن اللوحة رُسمت بتاريخ قديم نسبيا، ويعود للعام ٢٠١٦م تحديدًا.


أنقل لكم الخبر بشيء من التفصيل:

(إلى بلدة اسمها Thrissur في ولاية "كيرالا" الساحلية بالجنوب الغربي الهندي وبالذات إلى بيت عائلة هندية، اعتاد أحد أطفالها وهو Anujath التلميذ بالصف التاسع، أن يسمع والده Vinaylal يقول حين يشكو حاله لصديق أو لأحد الجيران، إنه يعمل ويكد ويتعب طوال النهار، بينما زوجته Sindhu لا تفعل شيئا، سوى التواجد في البيت بلا أي إنتاج.


إلا أن "أنوجاث" لم يكن مقتنعا بما يقوله أبوه عن والدته؛ لأنه كان يراها تشقى وتتعب في البيت بلا معين، فهي بحسب ما تلخّص "العربية.نت" مجمل عملها: تغسل ملابس زوجها وأولادها وتنشرها على الحبال لتجف، ثم تقوم بكيّها، وتمضي بعدها لتطبخ وتعد الطعام، وتغسل أواني المطبخ وغيرها، وتكنس وتمسح الأرض، وتخرج أحيانا لتملأ الجرة بالماء من بئر قريبة، وإذا احتاجت ما ينقص تشتريه من بائع متجول بالحي، وحين تجد شيئا تعطل تسرع لإصلاحه بنفسها، وإذا جاع رضيعها ترضعه، وفوق ذلك تلاعب بقية أطفالها وتسليهم بما تيسر، وترعى شؤونهم.


وفي يوم من الأيام، قرر "أنوجاث" أن يراقب أمه ويدقق أكثر، ليرسم بألوان الماء كل ما تقوم به من عمل؛ لأنه هاو كبير للرسم، فانكبّ يقوم بما قرر، ومع الوقت ولدت من ريشته لوحة ضاقت بما رسم فيها مما تقوم به أمه "سيندو" من عمل يومي، ينتهي بعودة الأب عند الغروب ليرى أن كل شيء في البيت معد لإسعاده، من دون أن يعير انتباها لتفاصيل ما تقوم به زوجته من عمل شاق، ولمّا انتهى الابن من الرسم سمى اللوحة "أمي، وأمهات الحي" واحتفظ بها.

بقيت اللوحة محفوظة في البيت أكثر من عامين، إلى أن علم Anujath بمسابقة شهيرة أقامتها أكاديمية Shankar للفنون، ورصدت لها جائزةً إحياءً لذكرى رسام كاريكاتير محلي بولاية كيرالا، فتقدم وشارك فيها بلوحته التي اكتسحت كل عمل فني آخر وبالإجماع، إلا أن عمر الفرحة كان قصيرا جدا، فما إن علم أن الجائزة المرصودة كانت من نصيبه، حتى جاءه نعي والدته التي أراد أن يهديها الفوز بمناسبة "يوم الأم" ففارقت الحياة لعلّة بقلبها.

صاحب اللوحة


جعلت ولاية "كيرالا" من صورته تلك غلافا لتقرير أصدرته حكومتها المحلية عن "المساواة بين الجنسين" عن عام 2020- 2021 الحالي.)

انتهى الخبر (1)


الأثر:


تأثرتُ كثيرا لسببين:

الأول: أن الطفل رسم تلك اللوحة كردّ فعل على استصغار عمل والدته المنزلي، وهو مؤشر على عمق إدراك ذلك الطفل لجهد والدته المبذول في تربيتهم ورعايتهم، وأيضا على قوة ذلك الطفل في رفض إنكار ذلك الجهد مستثمرا أفضل السبل وأكثرها تأدّبا.


الثاني: أنه فقد الوالدة التي ترعاه في سن صغيرة بينما يدرك هذا الطفل تماما دور والدته في رعايته، وواضح أثرها في عمق عاطفته ووعيه وإدراكه، وحتما كان لذلك أبلغ الأثر في حياته.


النتيجة:

قررتُ أن أقف عند هذه اللوحة لسبب مهم؛ اذ لفتت هذه الحادثة اهتمامي، وذلك للمفارقة الكبيرة بين ما وجدته من استصغار لعمل المرأة في بيتها هناك، وبين التقدير الذي تحصل عليه المرأة نتيجة رعايتها لبيتها هنا -أي إسلاميا واجتماعيا- ولا بد من أن نقف للإضاءة على الرؤية الإسلامية لعمل المرأة في منزلها، ولتقسيم الأدوار بين طرفي الحياة المشتركة (الزوج والزوجة) وأحب كثيرا أن أقوم معكم بجولة مهمة خلالها، خصوصا أن مجتمعاتنا بدأت تعاني من ثنائية ضدية  نحتاج للموازنة بينهما:


١/ رؤية لاتقبل أن تكون للمرأة مساحة ولا عمل ولا جهد إلا في البيت، مجمدة المرأة عند دور الزوجة والأم المتفرغة تماما، وهي حتما رؤية بعيدة عن الواقعية  ولا شك ان لها سلبياتها الجمة التي قد نقف عندها لاحقا.


٢/ ورؤية -على النقيض تماما- تنفر من عمل المرأة داخل بيتها، وتنظر اليه بدونية شديدة، بل تعدُّ وجودَ المرأة الطبيعي داخل بيتها ورعاية ابنائها وأسرتها عمل من لا عمل له، ومضيعةً للوقت والجهد والانجاز، وهناك قلة من السيدات بدأن يأنفن من تلك المهمة تدعمهن في ذلك الرؤية التي صارت تنتشر لبعض الحركات النسوية خاصة الليبرالية، والتي صرنا في حالة تطبيع لا إرادي معها.


بحث روائي:

بداية أنقل هذه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام متحدثا عن جدّيه العظيمين -الامام علي والسيدة فاطمة الزهراء عليهما السلام- إذ يقول:


(كان أمير المؤمنين يحطب ويستقي ويَكنس، وكانت فاطمة تَطحَن وتَعجِن وتَخبز)(٢) تُعدُّ هذه الرواية إحدى الروايات التي تدلل على عملية تقسيم العمل بين شريكي الحياة؛ الزوج والزوجة فتكون مسؤولية الزوج العمل خارج البيت ومسؤولية الزوجة العمل داخل البيت، مع ملاحظة أن الامام علي عليه السلام، حمل على عاتقه (الكنس) وهو من مسؤوليات البيت الداخلية كما هو متعارف عليه. وفي رواية عن الإمام علي عليه السلام، يصف فيها السيدة الزهراء عليها السلام -الزوجة والأم- يقول:

(ألا أحدّثك عنّي وعن فاطمة، إنّها كانت عندي، وكانت من أحبّ أهلهِ إليه -أي للرسول (صلّى الله عليه واله)- وإنّها استَقَت بالقِربة حتّى أثّرت في صدرِها، وطَحنت بالرحى حتّى مَجلت يداها، وكَسَحت البيت حتّى اغبَرّت ثيابها، وأوقَدَت النار تحت القِدر حتّى دَكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضِمارٌ شديد)(٣).


وقد وردت الكثير من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام، تؤكد على عظيم عمل المرأة في رعاية زوجها وأبنائها، وتؤكد على عظيم عمل الرجل في الكد على زوجته وعياله، من ذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه ‌السلام: (المرأة الصالحة خير من ألف رجل غير صالح، وأيّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيام أغلق الله عنها سبعة أبواب من النار وفتح لها ثمانية أبواب من الجنة تدخل من أيّها شاءت)(٤)، وقال عليه‌ السلام: (ما من امرأة تسقي زوجها شربة من ماء إلَّا كان خيراً لها من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها ويبني الله لها بكل شربة تسقي زوجها مدينة في الجنة وغفر لها ستين خطيئة)(٥)، وعنه أيضاً: سألت أم سلمة رسول الله صلى‌ الله ‌عليه‌ وآله عن فضل النساء في خدمة أزواجهن، فقال صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله: (أيما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تريد به صلاحاً إلَّا نظر الله إليها ومن نظر الله إليه لم يعذّبه)(٦).


أما فيما يخص الرجل، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله (٧) وعن الإمام الرضا (عليه السلام): (إن الذي يطلب من فضل يكفّ به عياله أعظم أجرا من المجاهد في سبيل الله)(٨)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (من لم يستحِ من طلب المعاش خفت مؤونته، ورخى باله، ونعم عياله)(٩).


ومع هذا التقسيم إلا أنه تمت الإشارة في الروايات الشريفة إلى أن يعاون الطرفان بعضهما، كلٌّ في مساحة الآخر فها هو الرسول الأعظم يوصي الإمام علي عليه السلام: (ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلّا كان له بكلّ شعرة على بدنه عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها وأعطاه الله من الثواب ما أعطاه الصابرين داود النبي ويعقوب وعيسى)(١٠)، كما يمكن للمرأة أن تعين أسرتها بالعمل، وهو ما وجدناه حاضرا في قصة مغزل السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام؛ إذ يُروى أن اليهود كانوا يتحكمون بحركة الاقتصاد في المدينة منذ ما قبل دخول النبي إليها، وكانت يدهم على صناعة النسيج والملبوسات، ووجد النبي صلى الله عليه وآله أن يتخلصوا من حاجتهم لليهود فكان أن شجّع النساء بَدءً من ابنته الصديقة الزهراء، على عمل الغزل في البيت تحقيقاً للاكتفاء الذاتي، وبنتاج هذا المغزل وكد الزهراء أطعم الإمام علي (ع) مسكينا ويتيما وأسيرا؛ إذ نزلت آيات الله تذكر تلك الحادثة.

الخلاصة:

إنه من اللافت للنظر حقا أن تكون نفقة الرجل وكده على عياله واجبًا شرعا، في حين تكون رعاية المرأة لأسرتها إحسانا تتفضل به على الأسرة، وإنه من الغريب والمجحف حقا أن تعد تلك مثلبةً يعاب فيها على الإسلام، فصارت نفقة الرجل على عياله (تسلطا اقتصاديا) وجب على المرأة أن تتحرر منه وتثبت ذاتها من خلال رفضه.

ان المتتبع لواقع المرأة في المجتمعات غير الإسلامية يجد أنها وصلت لمرحلة خانقة باتت معها غير قادرة على الموازنة بين دورها العملي والمهني وبين حاجتها الطبيعية لتكوين أسرة في ظل مجتمع ينظر لتلك الأدوار وكأنها دور ثانوي بل دور يجعلها في الصفوف المتأخرة من الحياة تحت ضغط ثقافي لحركات نسوية وسياسية غير منصفة وأكثر ما أخشاه ان نلهث لنصل لمرحلتها في مستقبل الأيام.

____________________________________

(١) موقع: https://www.khaberni.com

(٢) تنبيه الخواطر ٢: ٧٩

(٣) علل الشرائع، للصدوق: ٣٦٦ باب ٨٨ علّة تسبيح فاطمة (عليها السلام)

(٤) مستدرك الوسائل، ج ١٤، ص ٢٥٢؛ إرشاد القلوب، ج.١، ص١٧٥.

(٥) إرشاد القلوب، ج١، ص١٧٥.

(٦) بحار الأنوار، ج ١٠٣، ص٢٥١.

(٧) البحار: ١٠٣ / ٩ / ٣٧ وص١٣ / ٥٩ و ٧٨ / ٣٣٩ / ٢٩.

(٨) البحار: ١٠٣ / ٩ / ٣٧ وص ١٣ / ٥٩ و ٧٨ / ٣٣٩ / ٢٩.

(٩) ثواب الأعمال: ١ / ٢٠٠ / ١ وص٢١٥ / ١.

(١٠)(يا علي، من كان في خدمة العيال في البيت ولم يأنف كتب الله اسمه في ديوان الشهداء وكتب له بكلّ يوم وليلة ثواب ألف شهيد وكتب له بكلّ قدم ثواب حجّة وعمرة، وأعطاه الله بكلّ عرق في جسده مدينة في الجنة.

يا علي، ساعة في خدمة البيت خير من عبادة ألف سنة وألف حجّه وعمرة وخير من عتق ألف رقبة وألف غزوة وألف مريض عاده وألف جمعة وألف جائع يشبعهم وألف عارٍ يكسوهم وألف فرس يوجهه في سبيل الله وخير له من ألف دينار يتصدّق بها على المساكين وخير له من أن يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ومن ألف أسير أسّر فأعتقهم وخير له من ألف بُدنه يعطي للمساكين، ولا يخرج من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة.

يا علي/ من لم يأنف من خدمة فهو كفّارة للكبائر ويطفىء غضب الرّب ومهور حور العين وتزيد في الحسنات.

يا علي، لا يخدم العيال إلاّ صديق أو شهيد أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة) بحار الأنوار، ج ٠٤ ، ص١٣٢، مستدرك الوسائل، ج ٤ ، ص٢٥٠.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تؤرقني المرأة ..!

في عيد الأم .. دور الأم تحت التهديد

العملية التربوية تحت سلطة الحرية