العملية التربوية تحت سلطة الحرية



أبصرنا الحياة أجنّة نخطو بإتجاه الدنيا، لنُحقق أحلام والدَينا بالأبوَّة، ولنملأ شعورًا داخلهم انتقل إلينا؛ شعور الاشتياق إلى طفل نُلاعبه، وشاب ينمو أمام أعيننا، وصبية نزفها عروسًا مفتخرين بجمال ما وهبنا الله، ولنعيش شعور الشوق مجددًا من التوق لأبناء إلى التوق للأحفاد.


وتحت سلطة الشوق والحب للأبناء الذي نعيشه جميعًا من المحيط إلى الخليج، ومن الشرق إلى الغرب وعلى امتداد خارطة الوجود، نتزاوج ونسعى لتحقيق تلك الرغبة "وجود الأبناء"، بعضُنا وهو مُدركٌ مسؤولية أن يُنجب ويُربي، وبعضٌ غير مُدركٍ تلك المسؤولية، وأخرُ غير كفؤٍ لها، بعضنا يُدركها و يتعلَّم أبجدياتها مع وصول أول ابن له إلى الدنيا، وربما تجاوزت الاحتمالات ما أوردتْ، لكن تبقى هذه الرغبة فطرة جُبِل عليها بنو البشر على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومجتمعاتهم وعاداتهم. 


يقول الإمام علي (عليه السلام): (إنما فرَّق بينهم مبادئ طينهم، وذلك أنهم كانوا فِلقة من سَبْخ الأرض وعذبِها وحُزن تربتها وسهلها، فهم على حسب قُرب أرضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافهم يتفاوتون) ¹


إذًا، تختلف أبجديات التربية وقيمها وأساليبها من مجتمع لآخر، كلٌّ بحسب تاريخه وهُويته وديانته وعاداته وجغرافيته أيضًا، بل تتغير العملية التربوية وأساليبها ومحدداتها في المجتمع نفسه بحسب العصر الذي تعيشه الأجيال، فتربية جيل العشرينيات من القرن المنصرم في المجتمع ذاته تختلف عنها في الألفية الثالثة، فضلًا عن المجتمعات المختلفة، وفي هذا المورد نحفظ جميعًا قول الإمام علي عليه السلام: (لاتُقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم) ²

فما العملية التربوية التي نتحدث عنها في هذا المقال؟

التربية بمدلولها اللغوي تعني: ربَّى الأبُ ابنه أي؛ هذّبه ونمّى قواه الجسميّة والعقليّة والخلقيّة كي تبلغ كمالها³

يقول أفلاطون:(التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال) ⁴

ويقول أرسطو:(الغرض من التربية هو أن يستطيع الفرد عمل كل ما هو مفيد وضروري في الحرب والسلم، وأن يقوم بما هو نبيل وخيِّر من الأعمال ليصل إلى حالة السعادة) 5

ويقول جولز سيمون، الفيلسوف الفرنسي: (التربية هي الطريقة التي بها يكون العقل عقلاً حرًّا، ويكون القلب قلبًا حرًّا) 6

ويقول جون ديوي: (إنها عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد ثم صب لها في قوالب معينة)7

من الواضح أن التعريفات في عمومها تتحدث عن تنمية جوانب الخير في عمق الإنسان الذي تقع عليه العملية التربوية ومحاولة تهذيب جوانب الشر، مع الأخذ في الحسبان أن هناك اختلافًا أيضًا في التسليم بوجود الخير والشر في الإنسان، فقد اعتبرت المسيحية أن الإنسان مذنب ومخطئ بطبعه وأن الشر متأصل فيه (وليس في استطاعته الوصول إلى النجاة بقوته وحده، وإنما ينال النجاة بالغفران وذلك الغفران تمنحه الكنيسة بطريقة استبدادية محضة)8، في حين عدَّ جان جاك روسو أن الطفل يولد خيِّراً بطبعه ولكن المجتمع هو الذي يفسده، ونجد هذا المعنى في قول الإمام علي عليه السلام: (إن في أيدي الناس حقًّا وباطلاً، وكذباً وصدقاً)9 وربما نستحضر قول الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله: (كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرّانه) 10، مع الأخذ في الحسبان أنَّ الفطرة بحسب التفسيرات هي توحيد الله، وبالتالي فأتصور أن المؤمن بوجود الله وبعثه وحسابه لا بد من أن يتلمس أبواب الخير مبتعدًا عن أعمال الشر. 

نصل إلى نتيجة في غاية الأهمية إذًا، ألا وهي أن العملية التربوية تعني أن ينمّي المربي جوانب الخير ويهذّب جوانب الشر في طفله، لينمو إنسانًا فاعلًا مسؤولًا تجاه نفسه وأسرته ودينه ومجتمعه، ويبقى السؤال: 

في ظل اختلاف المجتمعات والأديان والأعراق، فهل يمكن تحديد الخير بتفاصيله الدقيقه؟

في كل المجتمعات يعدُّ الصدق والأمانة فضيلة خيِّرة مثلًا، لكن لكل مجتمع مجموعة قيم وآداب وسلوكيات وعبادات حددتها هويته ودينه وتاريخه، كحرص المسيحيين الملتزمين على التواجد في الكنيسة يوم الأحد، واعتبار يوم الجمعة يوم عيد وعبادة يحرص فيه كثير من المسلمين على حضور صلاة الجماعة، وامتناع الهندوس عن أكل اللحم، والكثير الكثير مما يصعُب حصره. 

تتوارث الأجيال مجموعة الآداب والقيم والسلوكيات، وحتمًا تطرأ تغييرات في انتقال منظومة القيم من جيل إلى جيل، نتيجة الكثير من الظروف التي يواجهها المجتمع وأفراده، ونتيجة التراكم المعرفي ونتيجة الخبرة الاجتماعية ونتيجة الكثير من العوامل التي يصعب حصرها ويطول الحديث عنها، لكن كل جيل مُربٍّ حريصٌ على نقل منظومة قيم وعبادات وسلوكيات معينة للجيل الذي يربيه، ولذلك لا يزال المسيحيون يعمِّدون أبناءهم، ولا يزال اليهود يُطلقون شعر رأسهم، ويعتمرون القبعات الخاصة بهم، ولا تزال المجالس الحسينية تُقام وتنتشر.

وفي زمن العولمة ومحاولات إلغاء خصوصية المجتمعات، وصهرها في قالب مجتمعي واحد ترتضيه القوى الاقتصادية والاجتماعية الأقوى، ما حال منظومة القيم التي تنقلها الأجيال إلى بعضها محافظة على هويتها وتاريخها ولونها وخصوصيتها؟ بل ما حال عباداتها؟! 

من الواضح أن هناك مجموعة قيم تُحاول هذه القوى تثبيتها وعولمتها مثل الحرية والمساواة والديمقراطية، وهي قيم فاضلة بلا شك إلا أنها تضرب -بتعريفاتها وتطبيقاتها اللييرالية- قيم المجتمعات عرض الحائط في أضخم عملية؛ "يقولون ما لا يفعلون" تمارس علنا وعبر ابتسامة مشرقة من جماعات نخبوية تنتمي إلى المجتمعات التي يحاولون مسخها وعولمتها!

فتحْتَ دعاوى الحرية يتم فتح نار حامية على دور المربين الذين تقع على عاتقهم العملية التربوية، أي عملية غرس مجموعة من القيم والعادات والآداب والسلوكيات في الجيل الذي يليهم مدّعين أن ممارسة الأبوين لدورهم الطبيعي في الحياة عامل من عوامل القمع والإجبار، فماذا يعني مثلًا أن تربي أمٌّ ابنتها على ارتداء الحجاب وهي في التاسعة من العمر فحسب!!!

السؤال: 

كيف تُجبر أمٌّ ابنتَها على الأكل بواسطة ملعقة؟ كيف يُجبر أبٌ طفلًا في الثالثة أو في الخامسة من عمره على الاستسلام للطبيب من أجل حقنة تطعيم وقائي؟! كيف يُجبر أب ابنَه على الانتظام في المدرسة رغم أن بعضهم وفي أول يوم دراسي قد يُقبِّلون أقدام أبويهم حتى لا يتركوهم وحيدين في تلك المدرسة!!

لا شك أن هناك مجموعة من الأخطاء الشائعة أو الغريبة التي قد يمارسها مربٍّ في أثناء ممارسته دورَه الأبوي، ولا شك أن تغيير شيء من منظومة القيم الاجتماعية سببه وجود أخطاء أو جوانب نقص أو جهل أو مجرد حاجة فرضت التغيير، إلا أن ذلك التغيير حصل بشكل تدريجي شعرت معه جماعات من ذلك المجتمع بالحاجة إلى التغيير فمارست ضغطًا من نوع ما (فكري/ثوري/علمي/عسكري..) ولا بد من أن ذلك التغيير قد قوبل بمقاومة قلّت تدريجيًّا مع ارتفاع نسبة الشعور بضرورة التغيير عند بقية جماعات المجتمع، إلا أن ذلك المجتمع ورغم درجات تغيره لا بد من أنه لا يزال يحتفظ بمجموعة قيم أو عبادات أو آداب وهو سعيد بمحافظته عليها، ذلك أنه يجد أن مجموعة القيم والعبادات والآداب تلك ضرورات من أجل مجتمع منتج فاعل صحي، لذلك فهو يشجع على بذل المال "الصدقة" من أجل سدّ حاجة الأفراد الأكثر عوزًا في المجتمع، باختلاف طرقها ومسمياتها من مجتمع لآخر. 

وتختلف نسبة الإصرار عند الأبوين في غرس مفهوم أو عبادة أو سلوك عند أبنائهم بحسب درجة شعورهم بأهمية ذلك المفهوم والسلوك وتلك العبادة؛ إذ كلما اشتد شعورهم بضرورة تلك القيمة اشتدت درجة إصرارهم على غرسها في أعماق أبنائهم، إلا أن بعضهم قد يسيء فعلًا في أثناء عملية الغرس تلك، حتى يكون للأمر أثر عكسي يؤثر في الفرد والأسرة  والمجتمع ككل، هذا لا يعني أن أساس الرغبة والنية في زرع تلك القيمة الإيجابية في نفس الأبناء أمرٌ سلبيٌّ يصل إلى درجة القذف بالقمع والإجبار لكنها أخطاء لا بد من أن يتصدى لتصحيحها نخبة الأفراد في المجتمع حتى تحافظ عملية الغرس على جمال إنتاجها. 

حين نقول أن درجة شعور الآباء بأهمية قيمة ما، تجعلهم يشعرون بمسؤولية كبيرة تجاه إكساب أبنائهم تلك القيمةَ، فكيف إذًا لو علِمنا أن الأمر يختص بعبادات يعتقد الآباء أنها واجب شرعي سينقل أبناءهم من نجاح دنيوي إلى نجاح أخروي؟! لا بد من أن يكونوا حينها أكثر حرصًا على زرعها في أعماق أبنائهم، وهي عبادات تختلف من دين إلى آخر، وقد نجد الكثير منها متطرفًا جدًّا، ويؤدي إلى التهلكه كقتل الأبناء وتقديمهم قرابين كما سمعنا عند بعض الديانات الغريبة، لكن .. هل يعني ذلك أن نسلب الآباء "مسؤوليتهم" فنرفض أن يعلم الأب طفله على الذهاب إلى المسجد وتأدية الصلاة وإن استوجبت إلزامًا بدرجة ما! وهل صار نضالًا أن نُلقن الفتيات كيف يتجاسرنَ على أمهاتهنّ حين يحاولنَ تعليمهنّ فلسفة الستر والحجاب والعفاف؟

إن العملية التربوية عملية عقلية عاطفية فطرية تحث الإنسان على الاهتمام بتعليم ابنه كيف يكون صحيح البدن والروح والعقل والخلق، من منطلق الحب والعطف والشعور بالمسؤولية الأسرية والاجتماعية والدينية، ومحاولات نزع "السلطة والقيادة الأبوية" للعملية التربوية ليست سوى حلقة من حلقات سلسلة محاولات إفراغ المجتمعات من قيمها وهوياتها وتاريخها وخصوصيتها؛ لأسباب صارت معروفة، فما أسهل اقتحام مجتمعات لا تدري من هي ولا تدرك ما يجب أن تكون عليه.



1/ نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج ٢ - الصفحة ٢٢٧

2/ نهج البلاغة - الحكم المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي أبن ابي طالب(ع) - تسلسل 102

3/ معنى التربية في معجم المعاني الجامع


(4/5/6)/ سليمان كامل والعبد الله علي: التربية، مطبعة صادر، بيروت، 1965


7/ ديوي، جون، الديمقراطية والتربية، ترجمة متى عقراوي، وزكريا ميخائيل، طبعة محددة لأغراض دراسية، بيروت، 1970، ج1، ص12.


8/مبادئ الفلسفة، ترجمة أحمد أمين، ط7، القاهرة، 1964، ص80.


9/ الكافي للكليني ج١ ص٦٢ باب اختلاف الحديث الحديث ١


10/ جوامع الجامع : 359

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تؤرقني المرأة ..!

في عيد الأم .. دور الأم تحت التهديد