تؤرقني المرأة ..!



منذ فتحتُ عينيَّ على هذه الأرض، وأنا أعيش تجاذبات حاضرنا الراهن، ولا أبالغ حين أقول ذلك؛ فحين فتحتُ عينيَّ كانت تلك التجاذبات قد بدأت بالتدحرج عبر منتديات القرى الاجتماعية الإلكترونية إلى أرض الواقع، فصرنا نتحدث عن حقوق المرأة وظلامة الرجل، عن إشكالات حول الإسلام الذي يوجب على المرأة أن تحتجب دونا عن الرجل، ويسمح للرجل أن يتزوج أكثر من امرأة في آن دونا عن المرأة، وبين تلك الإشكالات كانت أعيننا تنبهر بعالم الرجل المفتوح؛ طفلا وشابا وكهلا، ملاعب ونوادٍ، مآتم ومساجد بالإضافة للشوارع! في حين كنا نحث الخطى في الشارع مسرعات لنصل إلى مآتمنا وبيوتنا ومدرستنا فحسب! لم يكن ممكنا أن تمر الفتاة على ذات الشارع مرتين، فذلك مؤشر على (حوامتها!) وكان ذلك أمرا غير مقبول، في حين يتناثر الصبيان والشباب في الشوارع والأزقة.


ورغم أن الجميع صار في وقتنا هذا، ينتشر في الشوارع، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، ولا أعتقد أن ثمة مؤشرات تُقرأ على حركة الفتيات الطبيعية، لا تزال ذات التجاذبات موجودة لكنها اتسعت أكثر وصارت تملَأُ أسماعنا أكثر، وعُقِدَتْ حولها النقاشات والمحاضرات ولا تزال، والفارق العميق بين الماضي والحاضر أن سطوة تلك التجاذبات صارت أقسى وأثرها أعمق.


إن ما يحزنني حقا أن تلك التجاذبات التي كنا نناقشها خلسة متفاجئين من بعض ما يطرح فيها، خلقت جيلا من النساء الغاضبات المتحاملات، هل سمعتم عن شخصيات غير متصالحة مع ذواتها؟


انهن بعض هؤلاء النسوة اللاتي يعشن تضخما في مشاعر الغضب تِجاه مجتمعهِنَّ وهُويتهِنَّ وعقيدتهن، هؤلاء النسوة يعِشنَ في ثوب يكرهنه، وضمن قواعد اجتماعية يمقتنها، وينتمين لهُوية عقائدية يتذمرن منها .. فأي جحيم هذا!!!


أن تجد امرأة بكامل حجابها تهاجم فريضة الحجاب!

أن تجد امرأة بكامل حجابها تصفق انتشاءً وتحفيزًا لشابة تُعلن توقفها عن الالتزام بهذه الفريضة؟!

أن تجد ابنة لهذا المجتمع وهذا الدين وربما من فئة متدينة جدا، تتَّخذ من امرأة اخرى عدوا لها لانها مثلا زوجة ثانية!

أن تجد ابنة لرجل فاضل، زوجة لرجل فاضل، أختا لرجل فاضل، وربما أمّا لمشروع رجل فاضل؛ تسب الرجال سرا وجهرا في حالة تشبه الهستيريا وترى أن الإسلام ليس سوى صنيعة هذا الرجل الذي تسبه!


هؤلاء النسوة .. يؤرِّقْنَني!


ذلك أن كل واحدة منهنَّ تعيش صراعَين قاسيين متعِبين:

أ/ صراع شخصي؛ بين ما تمارسه فعلا وما تريده حقا، ويكفي حينها أن أفكر في وجود قطعة القماش تلك على رأسها دون رضى وحب وارتياح بل بكل رفض لأتساءل: هل تحتسب صلاة المصلي المكره؟ الصائم المكره؟ المتصدق المكره؟ هل يحتسب حجاب المكرهة؟! (واعني بذلك احتسابا أخرويا بعيدا عن الدنيا ذلك الاحتساب الذي لا يمكننا أن نطلع عليه أو نعلمه) وحاشى لله أن تضيع عنده الحقوق.


ب/ صراع ليست طرفا فيه؛ ذلك ان هذه المرأة تتصارع كل يوم مع كل رجال الدنيا، مع كل مدافعة ومتحمسة لعقيدتها وهُويتها، مع كل محب لمجتمعه رغم نقده لنواقصه وطموحه؛ بأن يتجاوز المجتمع تناقضاته ونواقصه، في حين توفر لها مواقع التواصل ساحة حرب واسعة لا منتهى لها، وفي المقابل لن تجد عند هؤلاء الغاضبات متسعا من فضول أو حب لتقرأ كتابا واحدا يتحدث عن العقيدة الإسلامية فضلا عن أن تفتح تسجيلا لتسمع خطيبًا يطرح تلك الاشكاليات ليجيب عنها!


إقول: إن بعض هؤلاء النساء غاضبات نتيجة مواقف اجتماعية وربما شخصية عشنها، نتيجة تجارب قاسية خضنها، نتيجة لقاء شخصيات ملتبسة آذتهن وألقت في نفوسهن قبل عقولهن أحكاما تعميمية اتسعت رقعتها لتشمل المجتمع كله والدين كله .. ولا شك أن بعضا آخر يحمل تصورات خاطئة أو تأثُّرًا بضغط تلك الاشكالات.


لكني حين أتخيل حجم الألم والغضب الذي تحياه تلك المرأة، حين أفكر في حجم الضياع الذي تشعر به، حين أقرأ مدى اتساع أثر تلك الإشكالات في نفوس بعض النسوة عموما، أشعر فعلا بالأرق والشفقة والألم وأتوق جدا لأن يكون لنا جميعا دور نمارسه بكل حب؛ لِنمنع مشاعر الغضب من أن تنمو في نفوس الصغار، ولِنساهمَ بمساعدتهم في اختيار صراعاتهم الصحيحة؛ مع ذواتهم وعقولهم وأنفسهم ثم مع كل ما يحاول أن ينزع كرامة ذواتهم وعقولهم وأنفسهم حقا، محترمين خيارات من مضوا مصرين على رفض أفكارهم مدافعين عن هويتنا وعقيدتنا متمسكين بهذا الحق بكل حب وسلام وثقة.

تعليقات

  1. أحسنتم؛ فالمقال إضافة لكونه في غاية التوفيق، فهو من المقالات التي يحسنُ تداولها ومناقشتها وتحويلها إلى مادَّة تصحيح ثقافي..

    لو أنَّ إنسانًا يُولدُ في قفص حديدي وتُبرمج بعض الآلات لتغذيته والعناية به دون أن يرى بشرًا، فمن الطبيعي أن يألف هذه الحياة، كما ومن الطبيعي أيضًا أنَّه يستوحش المجتمع البشري لو يُعرض عليه في كِبره..

    بالقياس على أنَّ المخلوق الحي الحسَّاس المتحرِّك يألف بما يكون عليه واقعه الاجتماعي والبيئي، فإنَّ المرأة الهولندية -مثلًا- يصعب عليها أن تعيش حياة المرأة في صعيد مصر أو أمازيغ الجزائر..

    لذا، فإنَّ الطريق الأمضى لتغيير ثقافة الناس هو فرض واقع ثقافي وفكري اجتماعي، وهو ما تتكفَّل به العولمة اليوم بشكل غير مسبوق..

    ما أراه هو أنَّ المرأة لم تتحول إلى الغضب والنقمة على الواقع لمجرَّد الانفتاحات الحوارية في التسعينات وما بعدها، بل هو لواقع ثقافي معولم فرض نفسه فلا يرى جيل اليوم غيره، فالحال هو حال الذي ولد في قفص معزول عن الناس!!

    إنَّ الواقع المعولم المفروض يشتمل على تحقير وتسخيف ما يتعلَّق بعفَّة المرأة ممَّا هو محفوظ في كتب علماء المسلمين، والدعوى أنَّه ليس هو الإسلام!!

    المشكلة مُعقَّدة في عمق بعيد..

    أرجو من القرَّاء الكرام تداول ومناقشة مقال الأستاذة الحبيشي..

    ردحذف
    الردود
    1. الواقع في غاية التعقيد والصعوبة
      نحتاج لعمل تأصيلي جماعي مكثف والحال انه لا يوجد حتى الآن مثل هذه المبادرات التي تركز على قضية المرأة ومعاناتها تحت وطأة محاولات التغريب المكثفة والواضحة عبر ما تفضلت بذكره من حالة اغراقنا تحت وطأة عالم معولم مفروض


      كل جهد مطلوب ومبارك ان شاء الله.. ومن خلال هذا المنبر اناشدكم وانتم اصحاب اقلام مشحوذة وهمم عازمة واناشد الجميع ان يزودونا بكل ما خطه قلمه وكلما بذله من جهد لافادتنا به مع بقية المتابعين

      حذف
  2. أحسنتِ كثيرًا..
    مقالةٌ واعيةٌ متزنةٌ جدًا.
    للأسف باتت المرأة تدافع عما يسيء لها من فكر وثقافة، وترفض حتی النظر فيما ينبغي أن تكون عليه، فباتت تُعين علی نفسها، ولا تسمع ممن يريد بها خيرًا.
    أرجو أن يلقی هذا المقال حجم التداول المناسب له لما له من أهمية.

    ردحذف
    الردود
    1. احسن الله لكم شيخنا العزيز

      كل الشكر لمرورك وعسى الله ان يجعلنا في الطريق الصحيح ولعل الله سنفع بهذ الكلمات قلبا متألما وعقلا مشوشا

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في عيد الأم .. دور الأم تحت التهديد

العملية التربوية تحت سلطة الحرية