المرأةُ وحقوقُها
البحث في الترديد بين كونها جدليةً أو مغالطةً أو غيرَ ذلك
تعقيبًا على مقال: (تؤرقني المرأة) للأستاذة إيمان الحبيشي
قرأتُ قبل أيَّام مقالًا بعنوان (تؤرقني المرأة)[1] للأستاذة إيمان الحبيشي، وقد تداخلتُ في مساحة التعليقات بمداخلة تحليلية موجزة، ثُمَّ أنَّه بعد ذاك اطلعتُ على بعض الآراء حول المقال استوقفني منها رأي لفتاة أو امرأة ظهر فيه رفضُها النفسي للتفريق بين الرجل والمرأة وتَمْيِزِهِ عَنْها في بعض التشريعات الإلهية.
من ذلك قولها:
لماذا هذا الحق الشرعي للزوج أن يتحكَّم في حريتي، فَيَحْرُمُ عليَّ الخروج من منزل الزوجية دون إذنه ورضاه؟
لماذا يحقُّ له دون المرأة الزواج من أربع؟
لماذا لو كان للرسول (صلَّى الله عليه وآله) أن يأمر أحدًا بالسجود لغير الله تعالى لأمر المرأة أن تسجد لزوجها؟
لماذا يُكلَّف هو في الخامسة عشرة وأنا في التاسعة؟
لماذا هو يرث ضِعفي؟
وغير ذلك من الامتيازات الشرعية للرجل ممَّا لا أملك أن أمنع عقلي من التفكير فيها، بل لا أملك أقلَّ من رفضها، وإن سلَّمتُ فهذا لا يعني أكثر من استسلام ليس بيدي التمرَّد عليه أو مقاومته! انتهى ما أبدَتْهُ ممَّا يختلج في نفسها.
عارضتُ قاطعًا مناقشة هذه التساؤلات؛ فالمنهج العلمي يُلزمنا عدم مغادرة الأصول ما لم يتأكَّد وضُوحُها لجميع الأطراف، ثُمَّ من بعد ذلك فأيُّ خلاف في البناءات والفروع نقطع برجوعه إمَّا لاختلاف في الأصول، أو لخطأ في القياس والتطبيق. والواضح من التساؤلات المطروحة وجود مشكلة حقيقية في الأصول.
إنَّ للتساؤلات أعلاه طبيعةً أعم ممَّا يخصُّ المرأةَ وما يجول في نفسها من استفهامات وأفكار؛ فنحن نجدها في كلِّ ما موضوعه مِلاكات الأحكام الأعم من الشرعية وغيرها، من قبيل: لماذا يفرض اللهُ تعالى في أموالنا حقوقًا للمحتاجين؟ لماذا ميَّز اللهُ سبحانه عنِّي مسلمَ بن عوسجة -مثلًا- فكان هو من أنصار الإمام الحسين (عليه السَّلام) في كربلاء، والحال أنَّني لو كنتُ قد ولدتُ في تلك الفترة فلربَّما نصرتُه (عليه السَّلام)؟
هذان سؤالان أحدهما في الشرع والآخر في عقيدة تقديرات الله جلَّ في علاه وقضاءاته، وهما من نفس طبيعة تلك الأسئلة الخاصَّة بالمرأة.
إنَّه موضوعٌ جادٌّ لا يصحُّ تناوله دون التزام منهجي ووضوح موضوعي حاكم على ما دونه مطلقًا. لذا فقبل الشروع أُنبِّه على أمور:
أوَّلًا: رجائي ممَّن لا يقوى على إكمال القراءة أن لا يشرع في قراءة المقالة.
ثانيًا: من يقرأ بأحكام مسبقة وبناءات حاكمة فرجائي منه، على أقل التقديرات، أن يحترم حقَّ الاختلاف في الفهم والنظر.
ثالثًا: من المحرَّم أدبيًا الاقتطاع أو الاكتفاء بفهم فقرة والعزوف عن تدبُّر الباقي، فالمقال وِحْدَةٌ واحِدَةٌ لا تحتمل إلَّا أن تُقرأ كاملة غير متجزِّئة.
رابعًا: لم أُثبِت في المقالة أحكامًا أو رؤىً خاصَّة، وإنَّما وجَّهتُ اهتمامي لبيان القواعد والأصول، فلا يصحُّ لأحدٍ تحميلُ المقال ما لا يحتمل، أو أن يفترض أحكامًا من وحي تحليلاته الخاصَّة.
خامسًا: المقالة تنظيرية حاولتُ فيها التزام جادَّة الموضوعية، وعلى القارئ الكريم أن ينظر فيها على وفق ذلك.
مقدمات:
أخصية المعرفة وأعمية السؤال:
جاء عن أبي عبد الله جعفر بن محمَّد صادق (عليه السَّلام) أنَّه قال: “إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ عَلَيْه قُفْلٌ ومِفْتَاحُه الْمَسْأَلَةُ”، وعن (عليه السَّلام): “لَا يَسَعُ النَّاسَ حَتَّى يَسْأَلُوا ويَتَفَقَّهُوا ويَعْرِفُوا إِمَامَهُمْ ويَسَعُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِمَا يَقُولُ وإِنْ كَانَ تَقِيَّةً”[2].
ولكن؛ ورد في التوقيع الشريف لصاحب الأمر (عليه السَّلام): “وأمَّا علَّة ما وقَعَ مِنَ الغَيْبَةِ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يقول: (لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)[3]“[4].
فهناك إذن ما لا ينبغي لنا السؤال عنه، كما وأنَّ نفس السؤال قد يكون مغلوطًا، كما في الرواية الشريفة عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): “هل يقدر ربُّك أن يُدخِلَ الدُنيا في بيضةٍ من غير أنْ يُصَغِّرَ الدُنيا أو يُكَبِّرَ البيضة؟
قال (عليه السَّلام): إنَّ الله تبارك وتعالى لا يُنْسَبُ إلى العجز، والذي سألتني لا يكون”[5]. فقوله (عليه السَّلام): “والذي سألتني لا يكون” مرجعه أنَّ دخول الكبير في الصغير عدمٌ لا وجود له، وفرض الوجود جمع بين النقيضين وهو محال. فالسائل سأل عن لا شيء.
أمَّا جواب الإمام الرضا (عليه السَّلام) على نفس السؤال بقوله: “نعم، وفي أصغر من البيضة؛ قد جعلها في عينك وهي أقل من البيضة، لأنَّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء لأعماك عنها”[6]. فراجع إلى بيان الوجود الانطباعي لا الحقيقي.
ومن أمثلة ذلك قول القائل: ماذا كان قبل الله؟
والحال أنَّ (القبل) مقول للزمن، والزمن مخلوق، فلا يُقال: ماذا كان قبل الله!
هنالك الكثير من الأسئلة المغلوطة والمغالطية، وما لم يُتَنَبَّه لها كانت مصيدة يقع فيها الغافلون فينزلقون إلى مهاوي الضلال والانحراف.
المتحصل: المعرفة أخصُّ من السؤال؛ حيث إنَّ السؤال قد يؤدي إلى الجهل والعمى ما لم يكن على وفق القواعد والثوابت الصحيحة، وهذا ما سوف يتضح قريبًا إن شاء الله تعالى.
مناسبة السؤال للمعرفة الشخصية:
يشترك البشر في معارف عامَّة، مثل الألوان والأحجام والفوق والتحت والبعد والقرب وما نحو ذلك ممَّا يفهمه ويعرفه الإنسان من خلال الحياة وخبراتها المشتركة. فإذا سأل سائلٌ عن لون وردة -مثلًا-، كفى أن يُجاب بكونها حمراء أو صفراء أو بيضاء.. دون حاجة إلى مقدِّمة في علم الألوان وأنَّها مقولة للكيف وفي البصريات وعلاقتها بالنور والعتمة..
وكذا لو سأل عن مكان كتاب معيَّن كفى أن يُقال له: فوق الطاولة مثلًا، دون حاجة إلى مقدمة تشرح المفاهيم الانتزاعية وأنَّ منها الفوق والتحت والقبل والبعد..
ولكنَّ الأمر ليس كذلك فيما لو كان السؤال عن سبب تغيير الألوان في أعماق البحر، أو في هل أنَّ السماء للنصف المقابل لنا من الكرة الأرضية بالنسبة لنا فوق أو تحت؟
ومن ذلك سؤال السائل عن أحد الأحاديث الواردة في كتبنا الحديثية إن كان صحيحًا أو لا!
إنَّ لمثل هذه الأسئلة مقدمات لا بدَّ للسائل من الإحاطة بها حتَّى يفهم الجواب ويعي طبيعته ومستنده، والحال أنَّ فسادًا خطيرًا تُسبِّبه الإجابات المقتضبة أو تلك التي لا يعي السائل مقدماتها.
المُتحصل: جاء عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال لكميل بن زياد: “يا كُميل، ما من حركة إلَّا وأنت محتاجٌ فيها إلى معرفة”[7]. فلا يصحُّ لعاقل أن يطالب بجواب على أمر لم يحط بمقدماته بعد، وعليه أن يُسلِّم لواقعه المعرفي ولا يتجاوزه إلَّا بمقدمات معرفية صحيحة.
موافقة الفطرة لموارد التسليم الصحيحة:
من الطبيعي أن لا يفهم الولد الصغير قرارات والده، لا لأنَّه غبي، ولكن لأنَّ خبراته المعرفية أضيق من خبرات والده، ولذلك يقول الأب لولده: سوف تعرف السبب إذا كبرت! ولو قفز الكبار على هذه المراحل التأسيسية ففي ذلك فساد للأولاد، وحينها لن يتعلموا ولن يصيبوا ما أراده الكبار لهم.
لا يقتصر ذلك على الإنسان فقط، بل هو شامل للحيوانات التي يأخذ الكبير منها بيد الصغير ليعلمه العيش وإدارة شؤونه قبل أن يتركه لمواجهة الحياة.
حتَّى تحسُن تربية الصبي فعلى مربيه أن يُعلِّمه عقلائية التسليم ثقةً في الكبار الذين يريدون له الخير والصلاح.
هذا والأمر فيما بين المخلوقات التي قد يتجاوز فيها الصغيرُ الكبيرَ قوَّةً وكفاءةً وما نحو ذلك، غير أنَّ الأمر مختلفٌ فيما بين المخلوق والخالق، ولو حاول المخلوق تجاوز حدوده التكوينية فمصيره إلى ضلالٍ أو صعق وفناء.
شاهد الضلال:
قال أبو جعفر (عليه السَّلام): “تكَلَّمُوا في خلق الله ولا تَكَلَّمُوا في الله؛ فإنَّ الكلامَ في الله لا يزيد إلَّا تحيرًا”[8]. وقد حذَّر أهلُ البيت (عليهم السَّلام) من غرور العلم؛ قال أبو عبد الله (عليه السَّلام): “يا مُحَمَّد، إنَّ الناس لا يزال بهم المَنْطِقُ حتَّى يتكلَّمُوا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء”[9].
شاهد الصعق والفناء:
قال الله تعالى في محكم الكتاب العزيز: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)[10].
جاء في الخبر الشريف عن زرارة وحمران، قالا: كان يُجَالِسُنَا رجلٌ من أصحابنا، فلم يَكُن يسمع بحديثٍ إلَّا قال: سَلِّمُوا. حَتَّى لُقِّبَ: سَلَّم. فكان كُلَّمَا جَاءَ قَالَ أصْحَابُنَا: قد جَاءَ سَلَّمُ!
فَدَخَلَ حمرانُ وزُرَارَةُ على أبي جعفر (عليه السَّلام) فقالا: إنَّ رَجُلًا مِنْ أصحابِنَا إذا سَمِعَ شَيئًا مِنْ أحَادِيثِكُم قَالَ: سَلِّمُوا، حَتَّى لُقِّبَ بِذَلِكَ: سَلَّم. فكانَ إذا جاء قالوا: قد جاء سَلَّمُ.
فقال أبو جعفر (عليه السَّلام): قد أفْلَحَ المُسَلِّمُونَ؛ إنَّ المُسَلِّمينَ هُمُ النُجَبَاءُ”[11].
فالتسليمُ حكمةٌ ووعيٌ، لا جهلٌ وجمودٌ كما قد يتوهمُّ البعض.
إشاعة الفوضى:
إذا فهمت ما مرَّ اتضح لك ما يريد اللهُ تعالى للإنسان أن يكون عليه، ومنه تتكشف لك مناشئ الدعوات النقيضة، وبالتالي فإنَّه لا شكَّ ولا شبهةَ ولا تردُّد في أنَّ الدعوات إلى حرية السؤال والمعرفة دون قيود ولا ضوابط ولا حدود دعوات ذات مناشئ شيطانية، ولا ننسى قوله فيما يحكيه عنه الكتاب العزيز: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[12].
إنَّ ما حقَّقه الشيطان من نجاح في إشاعة الفوضى أحدث خللًا شديدًا في موازين العلم واعتبارية المعرفة، فلا العالِم يقدر اليوم على تعليم الجاهل، ولا الجاهل يعرف كيف يتعلَّم!
معالم الدين وحدود المِلاكات:
قوام الدين أمران، العقيدة والفقه، وهما ما اصطُلِح على تسميتهما بالأصول وهي: التوحيد والنبوة والعدل والإمامة والمعاد، والفروع وهي: الصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتولي والتبري.
وفي كلا الأمرين حدودٌ تجاوزها غير مقدور للإنسان، وإن عاند ضل وهلك. يهمُّنا منها في المقام مشتركٌ يعمُّهما، وهو ما نُطلِق عليه (المِلاك).
“ومِلاكُ الأمر ومَلاكُه: قِوامُه الذي يُمْلَكُ به وصَلاحُه.
وفي التهذيب: ومِلاكُ الأمر الذي يُعْتَمَدُ عليه، ومَلاكُ الأمر ومِلاكُه ما يقوم به.
وفي الحديث: مِلاكُ الدين الورع؛ الملاك، بالكسر والفتح: قِوامُ الشيء ونِظامُه وما يُعْتَمَد عليه فيه ..”[13].
وفيما نحن فيه فإنَّ ” كلّ فعل فهو إمّا أنْ يكون واجدًا للمصلحة واقعًا أو واجدًا للمفسدة، وإمّا أنْ لا يكون واجدًا لهما. ففي الفرض الأوّل يعبَّر عن المصلحة الواقعيّة بالملاك الاقتضائي، وكذلك يعبَّر عن المفسدة الواقعيّة.
وأمّا الفرض الثاني فيعبَّر عن حالة خلوّ الفعل عن المصلحة والمفسدة بالملاك غير الاقتضائي، وفي كلا الفرضين كان التقسيم بلحاظ علاقة الفعل بالحكم، فحينما يكون الفعل واجدًا للمصلحة والمحبوبيّة فإنّه يقتضي البعث نحو الفعل بالمستوى المناسب للمصلحة الكامنة في الفعل، وحينما يكون الفعل واجدًا للمفسدة والمبغوضيّة فإنّه يقتضي الزجر عن الفعل بالمستوى المناسب للمفسدة”[14].
يُعلَّق ويرجع كلُّ أمر إلهي حتمًا وجزمًا إلى مِلاك محفوظ مداره المصلحة والمفسدة، منه ما نعلمه لعدم خفائه على الفهم، ومنه ما يُصرِّح به الله تعالى أو المعصوم (عليه السَّلام)، ومنه ما يحجبه جلَّ في علاه عنَّا. وينبغي، بل يجب العلم بوجوب امتثال الحكم حتَّى وإنْ كان بالإمكان تحقيق ملاكه بطريق آخر؛ فمِلاك وجوب الامتثال التسليم، وهو المُفاد صريحًا من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[15]، وقوله سبحانه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[16]، وغيرهما من النصوص الشريفة في وجوب الامتثال مطلقًا.
ينخدع بعضٌ بتسويلات الشيطان للمعاصي، كما في إظهار الإسكار على أنَّه المِلاك التام للنهي عن شرب الخمر، فيأتي من يجعل الإسكار قيدًا، ما لم يتحقَّق لا يحرم شرب الخمر أو غيره من المسكرات!
ومثل ذلك من لا ترى في شعرها أو عنقها عامل فتنةٍ أو إغراءٍ للرجل، فلا تجد داعيًا للبس الحجاب!
إنَّه وزيادة على وجوب التسليم، فإنَّنا لا نتمكَّن من الجزم بكون المِلاك المصرَّح به هو تمام ما عُلِّق عليه الحكم، لذا فلا دخالة للعلم بالمِلاكات من عدمها في وجوب امتثال الأحكام الدينية عن إيمان وتصديق ورضا وانشراح؛ أوليس مالك هذا الوجود بما فيه هو الله الحكيم البصير، ولا يقع شيء إلَّا وفيه حكمة بالغة؟
إنَّ الإيمان بالله تعالى وبكونه حكيمًا بصيرًا دافعٌ لأدنى حيرةٍ أو تردُّدٍ في رفض واقعٍ مَا أو التحفظ على التسليم بوجود الحكمة البالغة فيه، وهذا ممَّا فُطِر عليه الإنسان، ولذا نجده منقادًا بلا تردُّد للقوانين والتشريعات الوضعية؛ فهو على علم بأنَّ واضعَها خبيرٌ مُتَخَصِّصٌ. فكيف وما نحن فيه راجعٌ إلى مالك الملك الخبير البصير.. ربِّ العالمين؟!
الدين والواقع:
إذا عرفتَ ذلك، فمن الأصول الثوابت أنَّ دينَ اللهِ تعالى هو الجهة التي يُقاسُ عليها وهو الذي يُطلَبُ من غيره مواكبته، لا العكس.
إنَّ من أشدِّ الأطروحات المعاصرة تهافتًا وضلالًا أطروحة (مواكبة الدين للحياة) ما أدَّى إلى تطويع الدين وجعله مقودًا للحياة المعاصرة وواقعها الخارجي، حتَّى أصبح كلُّ طورٍ صناعي حقَّا يُبحثُ عنه في الدين، بل وأكثر من ذلك أنَّهم يقولون اليوم: ماذا صنع المتدينون وعلماؤهم للبشرية؟ هل صنعوا طائرة أو سيارة أو هاتفًا جوَّالًا أو حاسوبًا؟
إذن، فإمَّا أنَّ الدينَ قاصرٌ عن تلبية الحاجات العلمية للإنسان، أو أنَّ كلَّ ذلك موجود في الدين ولكنَّ خللًا عظيمًا استحكم في فهمه على مدى أكثر من ألف سنة.. أو أنَّ الدين ليس للحياة وإنَّما لتلبية حاجات الجانب الروحي في الإنسان!
من الواضح أنَّ هذه العيون تنظر إلى الدين من خلال واقع الحياة، والحال أنَّ الدين جاء لتقويم الحياة وتهذيبها بحسبه. فَتَنَبَّه رعاك الله تعالى.
أختم الكلام في هذا العنوان بكلمة:
قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)[17]، فكلُّ ما في هذه الدنيا إلى فناء، ولا معنى له في الآخرة ما لم يدخل في تكوين القلب السليم؛ لقوله تبارك ذكره (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[18].
عليك ان تتفطن إلى أنَّ الإمام الحسين (عليه السَّلام) قد كشف لأصحابه عن جنَّة تنتظرهم، ولم يكن في رصيدهم غير العقيدة والفقه الأخلاق. فافهم.
مسألة المرأة:
أوًّلًا: المقارنة:
يُفاد من المقارنة في تقرير ما يختصُّ به كل موضوع عن الآخر، ويُمنع التفضيل دون إثبات الظروف المؤثرة في موضوع المقارنة.
مثال: يمكن أن نُقارن بين قوَّة الرجل في ثلاث حُقَب زمنية تاريخية، وعندما نحسم الأمر بتفوق قوَّته في الحقبة الفلانية فلا بدَّ من ذكر الأسباب، وحينها لن يكون التفوق فضيلة؛ إذ أنَّه صنيعة ظروف توفَّرت في زمن وغابت في غيره.
ينبغي التَنَبُّه إلى أنَّ المقارنة من أكثر العمليات العلمية حاجة للتخصُّص والموضوعية، وهذا غير متيسر للأكثر، ولكن للأسف فإنَّه لم يبقَ أحدٌ إلَّا وأعملها.. فَضَلَّ وأَضَلَّ!
لذا فإنَّ السؤال العلمي الأصل هو: ما هو الوجه في المقارنة بين الرجل والمرأة؟
للرجلِ الفرد خصائصه التي لا يمكن لغيره مشاركته فيها إلَّا بحسب حدود خصائصه. فمقدارُ ومستوى وطبيعةُ شجاعةِ وإقْدَامِ زَيدٍ كلُّها ترجع لكونه زيدًا ابن فلان وفلانه الذي نشأ في بيئة وظروف معيَّنة خاصَّة، ولو ثبتت هذه الصفات لِبَكْرٍ لكانت خاصَّة به لكونه بكرًا ابن فلان وفلانه والذي نشأ في بيئة وظروف معيَّنة خاصَّة، ولكلٍّ ظروفه وحيثياته. لذا فإذا اختار قائدُ الجيش زيدًا، فلا لأنَّه أفضل من بَكْر، ولكن لأنَّه أقوى، وهذا لا دخل له في الأفضلية إلَّا من جهة ما تحتاجه ساحة المعركة، غير أنَّه تفضيل لا يقدح ولا يضر حتَّى بمقدار شَعَرَة في فضل بكر.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأيُّ مائزٍ تجده المرأة في صالح الرجل فإنَّ مائزًا آخر يجده الرجل في صالح المرأة؛ وما هذا إلَّا لبطلان فكرة المقارنة من رأس.
المتحصل: يجب وجوبًا حاسمًا على كلِّ عاقل أن يعيَ الجدلية العقيمة للمقارنة عمومًا ما لم تتقيد بالضوابط العلمية الدقيقة، وهي في الواقع متعذرة التحصيل غالبًا، ما يعني أنَّ صلاح الشيء في قياسه على نفسه، وعلى غيره في حدود ما تقبله طبيعته.
ما حصل هو أنَّ المرأة رفضتْ واقعًا معينًا لا لخطأ فيه، وإنَّما لمقارنتها لنفسها بالرجل.
بلى، قد يكون الواقع المفترض خاطئًا، غير أنَّني لم أقرأ بحثًا واحدًا في نفس واقع المرأة بعيدًا عن المقارنة ومناشئها.
إلى هذا الحد انكشف أنَّ مسألةَ المُقَارَنَةِ واقعٌ جدليٌّ قامعٌ للفهم والمعرفة.
ثانيًا: القياس على التجرِبَة:
يمكن للإنسان أن يسلك طريق البوذية -مثلًا- وينجَّح نجاحًا منقطع النظير في تهذيب نفسه والتحول بها إلى وجود ملائكي نقي، غير أنَّ هذا لن يُصحِّح الطريق ولن يُسوِّغ تركه للصلاة والصوم والحج وغيرها من فرائض الإسلام.
لو قيل: نجح زيدٌ في تهذيب نفسه وترويضها ومنعها عن المعاصي والموبقات. وإنَّما يراد من الفرائض الإسلامية الوصول إلى هذه الدرجات العالية من الإمساك بزمام النفس.
وبالتالي، يمكننا أن نستنتج عدم مطلوبية الفرائض الإسلامية لنفسها، وإنَّما طُلِبَت لواقع خاصٍّ اقتضاها، فلا ضير حينذاك في إيجاد البديل واختياره طالما انتهى إلى ما يُقصد من تلك الفرائض.
هذه مغالطة؛ لفساد مقدمات القياس؛ فإنَّ الجهة التي يجب القياس عليها هي الدين وما نُصَّ عليه فيه، والحال أنَّ صاحب القياس قاس على واقع التجربة الخارجية.
إنَّ الحديث عن المرأة أو الرجل حديث مغالطي فاسد ما لم يستند إلى نصوص الشريعة الغرَّاء، أمَّا القياس على نجاح الرجل في السياسة العالمية، أو نجاح المرأة في الفروسية، فهذا لا اعتبار له ما لم تكن كبرى قياسه شرعية أو مرضية شرعًا. كما ولا اعتبار للكتابة عن نجاحات امرأة مؤمنة في عملها الإسلامي الاجتماعي أو غير ذلك؛ إذ أنَّ الفرض هو الفراغ من قياسها على ضوابط الدين الحنيف، والحقُّ ليس كذلك، وإنَّما هو طغيانٌ لواقعٍ ما على وجوب الفحص عن جهة القياس. فتَنَبَّه.
طالما طُرِحَت مسألة المرأة بناءً على قضيةٍ مُسلَّمةٍ، وهي تعرُّضها التاريخي والحاضر للظلم والجور والاستنقاص، واعتبارها الحلقة الأضعف دائمًا.
من المفترض أنَّ القارئ الآن متنَبِّهٌ إلى أنَّ نفس إثبات كلِّ ذلك راجع إلى القياس على مقدِّمة كبرى مفترضة، وهي: عدم الفرق في ميادين العمل والإبداع بين المرأة والرجل.
فنرجع إلى ما للتو قد فرغنا منه ولكن من جهة أخرى، وهذه مغالطة في مغالطة لفساد القياس ثانية.
الخروج من الجدل والمغالطة في مسألة المرأة:
من المُؤمَّل أنْ يكون الأمر قد اتضح الآن، ولا يحتاج منَّا إلى أكثر من تنقيط:
التوقف تمامًا عن المقارنات بشكل عام، ومقارنة المرأة بالرجل على وجه الخصوص، ولن ينفع التوقف ما لم يكن عن فهم ووعي.
التوجُّه إلى النصوص الإسلامية بأذهان خالية ودون مسبقات على الإطلاق؛ والنظر والبحث فيها بتجرُّد عن وظائف كلٍّ من المرأة والرجل. وهذا لن يُنتج خيرًا وصلاحًا ما لم يكن النظر على وفق القواعد البحثية الصحيحة، ومنها بطلان التقعيد على المستثنيات والضرورات. فافهم.
تحصيل القوَّة الفكرية الحامية من الوقوع في التأثر بالواقع الخارجي وضغوط الإعلام والعقلية والنفسية الجماهيرية، لا سيما ونحن نعيش طوفان العولمة.
تنبيه:
نحن نأخذ ديننا وثقافتنا وفكرنا من الثقلين المقدَّسين، وقد يقع البعض، وربَّما من الكبار، في شِراك التأثُّر بالواقع الخارجي فيُحكِّمه على النصوص الشريفة. لذا، فمن الأهمية بمكان الحذر من الوقوع في ما نحاول الفرار منه.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) قَالَ: “مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي”[19].
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
16 رجب 1442 للهجرة
البحرين المحروسة
……………………………
[1] – https://noneiat.blogspot.com/2021/02/blog-post_24.html
[2] – الحديثان في الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 40
[3] – الآية 101 من سورة المائدة
[4] – الغيبة – الشيخ الطوسي – ص 292
[5] – التوحيد – الشيخ الصدوق – ص 130
[6] – التوحيد – الشيخ الصدوق – ص 130
[7] – تحف العقول عن آل الرسول (صلَّى الله عليه وآله) – ابن شعبة الحراني – ص 171
[8] – التوحيد – الشيخ الصدوق – ص 454
[9] – التوحيد – الشيخ الصدوق – ص 456
[10] – الآية 143 من سورة الأعراف
[11] – مختصر بصائر الدرجات – حسن بن سليمان الحلي – ص 73 – 74
[12] – الآيتان 16 – 17 من سورة الأعراف
[13] – لسان العرب – ابن منظور- (ملك)
[14] – المعجم الأصولي – الشَّيخ محمَّد صنقور- ج2 ص520
[15] – الآية 59 من سورة النساء
[16] – الآية 7 من سورة الحشر
[17] – الآيات من 26 إلى 28 من سورة الرحمن
[18] – الآيتان 88 – 89 من سورة الشعراء
[19] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 391
رابط المقال الأصلي:
http://main.alghadeer-voice.com/archives/5723
تعليقات
إرسال تعليق